في أداء استثنائي، تجسّد أماندا سيفريد مؤسسة طائفة «الشيكرز» في فيلم فريد من نوعه. وُلدت آن لي، الابنة الأمّية لحدّاد من مانشستر، في 29 شباط 1736 — «كما قد يتوقّع المرء من شخص معجزي:، تشرح الأخت ماري بارتينغتون (توماسين ماكنزي).
منذ بدايات حياتها، كانت مشغولة بأمور الله. ومنذ البداية، نفرت من الجنس وانجذبت إلى عبادة الإله بكامل الجسد. ولم يمضِ وقت طويل قبل أن تصبح قائدة واحدة من أكثر الطوائف الدينية تأثيراً في العالم الجديد.
لكن كل ذلك حدث بطريقة غريبة للغاية، وهي القصة التي يرويها فيلم «وصية آن لي»، السيرة الغنائية الفريدة والمذهلة والعابرة للعوالم لمونا فاستفولد عن مؤسسة وقائدة «الشيكرز» الروحية. أعلم أنّ الصفات كثيرة، لكنّني لا أستطيع حذف واحدة منها. قد لا يكون مناسباً لأذواق الجميع، لكن ذلك يبدو شبه ثانوي. عندما يُقدِم فنان على مخاطرة بهذا الحجم ويبقى وفياً لرؤيته بكل تفاصيلها، فإنّ العمل الناتج يستحق الاحترام، وهو دائماً جدير بالمشاهدة.
كثيرٌ من الأفلام التي تتناول شخصيات تاريخية تضع الجمهور في موقع المتفرّج من الخارج، ينظر بمزيج من الشك والفضول. لكنّ «وصية آن لي» فيلم داخلي بلا هوادة، مؤمن على نحو لا يتزعزع بمَوثوقية بطلتِه. عندما ترى رؤيا، نكون معها. عندما تشعر بالألم، نرتجف. وعندما تشعر بالفرح، نشعر به نحن أيضاً. الفكرة ليست التحليل، ولا حتى التعلّم، بل الانجراف الكامل في نشوتها.
تتعامل فاستفولد، التي كتبت السيناريو مع برادي كوربيت (الزوجان، شريكان في الحياة والفن، مع حياة آن لي (أداء مدهش لأماندا سيفريد) كما لو كانت رواية تُنقَل إلينا لأنّنا أبدَينا اهتماماً بالانضمام إلى جماعتها - باتباع الأم آن، كما صار يُطلق عليها. وبذلك، علينا أن ندخل تجربة غامرة كاملة، على غرار أسلوب «الشيكرز» أنفسهم في عبادة الله، الذي يتضمّن الغناء والرقص في أنماط معقّدة، وفقدان الذات في الابتهاج. حين تعترف بالخطيئة، أو حتى بالإغواء، يهتزّ جسدك أيضاً فيما تُطرَد الخطيئة ويتطهّر الجسد. سترتعش، تتلوّى، تدور، تضرب صدرك، وتمتلئ نوراً.
هذه الروحانية المتجسّدة لم تكن شائعة في زمن الأم آن. ففي القرن الـ18، كانت العقلانية والفكرانية الدينية في ذروة الرواج، وحتى النهضات الإنجيلية الأكثر حماسة، وغالباً ما ارتبطت برجال مثل جورج وايتفيلد وجون ويسلي، كانت تشدّد على التقوى والاهتداء والاتصال العاطفي بالله، لكن ليس إلى هذا الحدّ من الانفلات الجسدي. ما كان «الشيكرز» يفعلونه اختلف عن معظم الجماعات الأخرى. فالإنسانية، كما قالوا، خُلقت على صورة الله، ذكراً وأنثى. ومن ثمّ، من البديهي أن تعظ النساء، وأن يعود المسيح إلى الأرض في هيئة امرأة. تلك المرأة كانت الأم آن.
يلتقط «وصية آن لي»، في صيغة واسعة وشاعرية وغالباً ما تكون غريبة، نسخةً من أسطورة الأم آن كما رواها أتباعها. بحثاً عن القرب من الله، انضمّت هي وأخوها الحبيب ويليام (لويس بولمان، وهو رائع) إلى طائفة أسّستها جاين واردلي (ستايسي مارتن) وزوجها جيمس (سكوت هاندي). هناك تعرّفت على أسلوب الرقص والاهتزاز بوصفه تطهيراً من الخطيئة، وصارت قائدة.
وهناك أيضاً التقت بإبراهيم (كريستوفر أبوت)، وهو حدّاد، أصبح زوجها. لكن بعد 4 ولادات و4 وفيات رُضّع مروّعة، إلى جانب فترة في المصحّ ثم لاحقاً في السجن، اقتنعت بأنّ «الزنى» - أي علاقة جنسية على الإطلاق، بما في ذلك بين المتزوّجين - هو سبب انفصال البشرية عن الله. هذا الكشف وغيره رفعها إلى قيادة الطائفة، فقادت مجموعة صغيرة إلى أميركا، حيث يمكن لها ولأتباعها أن يجدوا الحرّية الدينية ويؤسّسوا كنيسة الله على الأرض.
تُروى القصة بصوت الأخت ماري، التي تصبح الذراع اليمنى للأم آن. لكنّ كلماتها تتراجع في هذا السرد أمام ما نراه والموسيقى التي نسمعها. معظم الأغاني تراتيل «شيكرية»، أعاد دانيال بلومبرغ صياغتها في ألحان مُلحِحة شبحية؛ كما ألّف 3 أغانٍ أصلية للفيلم. وتخلق رقصات سيليا راولسون-هول حركةً تستلهم أحياناً الرقصات «الشيكرية» التقليدية، وأحياناً تبدو أكثر وحشية، وأكثر تعبيراً عن الانفعالات الداخلية للشخصيات.
غير أنّ القلب النابض للفيلم هو الأم آن. تؤدّيها سيفريد بتفانٍ مطلق، امرأة رأت الحقيقة الكاملة للتاريخ والكون، وهي مستعدّة لملاحقة إخلاصها حتى أقاصي الأرض. الأم آن لا تتزعزع أبداً، وأداء سيفريد لا يتزعزع كذلك. لقد احتضنت الأم آن كل ما رفضه العالم الديني والثقافي من حولها: الحرّية الدينية، البساطة، العفّة، وعبادة الله بكامل الجسد. كانت تشعر بأنّ الجنس في زمنها كان أداة لإخضاع النساء، وأنّ الامتناع عنه سيكون أداة لتحقيق مساواة تامّة. كانت تؤمن بالمدينة الفاضلة. وكما تؤمن بأنّها ستبنيها.
وبطريقة ما، تمسّكت بهذا الإيمان على رغم من معاناة جسدية ونفسية تكاد لا تُحتمل. وأنا أشاهد «وصية آن لي»، حاولتُ أن أتخيّل فيلماً يشبهه، وأقرب ما وصلت إليه كان The Witch لروبرت إيغيرز. كلاهما يتعامل بجدّية مطلقة مع المشهد الذهني لشخصياته، كما شكّلته العوالم التي تعيش فيها بوصفه واقعاً أساسياً. وكلاهما عن امرأة تصارع، روحياً وجسدياً، البنى الأبوية في بحثها عن المعنى.
غير أنّ The Witch فيلم رعب، تنتهي رحلته برفض الله، فإنّ «وصية آن لي» هو، على نحو ما، النقيض الدقيق لذلك. وليس ذلك بسبب غياب العناصر اللازمة. فهناك دماء ووحشية ولحظات من الرعب الحقيقي في هذا الفيلم، وأعتقد أنّه لو كان في يَد أي شخص غير فاستفولد، لتحوّل إلى فيلم رعب.
لكن لا يوجد نوع سينمائي يصف ما هو عليه بدلاً من ذلك، كصورة سلبية مقلوبة. ربما النشوة. كل ما يحدث (المعجزات، المحن، الكشوف، الفرح) هو حقيقي تماماً لهذه الشخصيات، وقبل كل شيء للأم آن. وعندما تشاهده بكل كيانك، يصبح حقيقياً لك أنت أيضاً.